
فلما بلغ أشدّه واستوى: أي بلغ أشده من تعلّم الدروس واستوى قلبه فالتخلي عن كل محبوب سوى الله
في البداية، قد تبدو رحلة النضج الروحي طويلة وشاقة، ولكن مع كل خطوة واعية، يزداد الإنسان فهمًا لما يدور في داخله. أولًا، يمرّ بتجارب تُربكه، ثم يحاول فهمها، وبعد ذلك يبدأ في التعلّم منها. وعلى الرغم من أنه قد يتعثّر أحيانًا، إلا أن إدراكه يتوسع مع مرور الوقت. بالإضافة إلى ذلك، كل موقف يؤلمه يزرع فيه بذرة وعي جديدة. وهكذا، لا تذهب المعاناة سُدى، بل تتحول إلى أدوات تهذيب. ومن ثم، يكتشف أن الهدوء لا يأتي من غياب المشكلات، بل من وضوح الرؤية. نتيجة لذلك، يصبح أكثر اتزانًا في مواجهة الحياة. وبهذه الطريقة، يتقدّم بثبات نحو النور، حيث ينضج قلبه ويستقر عقله.
النضج الروحي في دروب الحياة، يمر الإنسان بمحطات متعددة. في البداية، يميل قلبه إلى التعلّق بالمحبوبات الزائلة. ولكن مع كل تجربة، تنضج رؤيته، ويتبدل وعيه. حينها، لا يعود يبحث عن الأمان في الخارج، بل يبدأ رحلته نحو الداخل، حيث ينمو النضج الروحي ويزهر.
أولًا: رحلة القلب تبدأ من التعلّق
في المراحل الأولى، يُفتتن الإنسان بالمظاهر. يظن أن الحب في العلاقات، والنجاح في الإنجازات، والسعادة في الامتلاك. ومع ذلك، يشعر بعدم الاكتمال رغم كل ما يملكه. في تلك اللحظات، يبدأ التساؤل. لماذا لا يشعر بالطمأنينة؟ وأين يكمُن السلام الحقيقي؟
ثم: تتغيّر البوصلة مع التجربة
بمرور الوقت، تكشف له الحياة أن كثيرًا من المحبوبات تذوب عند أول اختبار. وهنا، يتعلّم الإنسان أن التعلّق لا يمنح الاستقرار، بل يستهلك طاقته. في هذا السياق، تبدأ التحولات. لم يعد يُسارع للتمسّك، بل أصبح يتروّى ويفكر قبل أن يمنح قلبه.
بعد ذلك: يتفتّح الوعي بالنضج الروحي
مع تراكم الدروس، يزداد صفاء العقل، ويبدأ القلب في التخلّي الواعي. يتجه الإنسان تدريجيًا إلى محبة أسمى لا تتبدّل. يختار الله، لا لأن غيره لا يُحب، بل لأن محبته لله تمنحه المعنى، وتخفّف عنه عبء التوقعات. وهنا، تتجلى بوادر النضج الروحي.
ثم: يصل القلب إلى مرحلة “استوى”
حين يبلغ الإنسان أشدّه، يستقر قلبه. لا يعود يهتز أمام الغياب أو التغير، بل يثبت على يقين أن الله دائمًا معه. في هذا الموضع من الوعي، تُعاد كتابة أولويات الحياة. لم تعد المكاسب تحكمه، بل القرب من الله. كل مشهد يُشاهده بنور الفهم، وكل وجع يُحوّله إلى وسيلة للتقرّب.
أخيرًا: لا إله إلا الله… حبيبي ومولاي
حين تتخلّص الروح من كل تعلّق، تتصل مباشرة بالله. يصبح الذكر غذاءها، واليقين ركيزتها. لا يعود القلب يبحث عن الضوء في الخارج، لأنه وجد النور في الداخل. من خلال النضج الروحي، يتحول كل شيء إلى دعوة للتسليم، وكل تجربة إلى باب للوصال.